حكم وضع أجهزة التصوير في المسجد
حكم وضع أجهزة التصوير في المسجد
السؤال:
في أحَدِ المساجد يريدُ قَيِّمُه
أَنْ يُرَكِّبَ آلةَ تصويرٍ (كاميرا) لنَقْلِ صورةِ صلاةِ الإمام عبر شاشةِ عَرْضٍ
مُركَّبةٍ لنَقْلِ صورة الإمام في مصلَّى النساء المفصولِ عن مصلَّى الرجال بجدارٍ،
أي: المصلَّى حجرةٌ مفصولةٌ عن حجرة الرجال؛ وذلك حتَّى يتسنَّى للنساء مُشاهَدةُ صورةِ
الإمام والاقتداءُ به؛ فيحصل لهنَّ سماعُ صوته عبر مكبِّرات الصوت وتُرى صورتُه عبر
هذه الشاشةِ، فما هو الحكم؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة
والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين،
أمَّا بعد:
فإنه وإِنْ كان وضعُ الآلات الحديثة
مِنَ الكاميرات والأجهزة المَرْئيَّةِ قَصْدَ رؤيةِ الإمامِ عبر الشاشة حالَ أدائه
لخُطَبِه ودروسِه الأسبوعية، والاقتداءِ به في الصلاة أَدْعى للانتباه للخُطَب والدروس،
وأقوى للإنصات والعنايةِ والمُتابَعةِ، إلَّا أنَّ هذه المصلحةَ تُعارِضُها مَفاسِدُ
يأتي ـ في طليعتها ـ: حكمُ التصويرِ وشدَّةُ الوعيدِ الواردِ في الأحاديث الصحيحة،
منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ»، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ
اللهِ» ، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ
لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ المَلاَئِكَةُ» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبَّاسٍ، إِنِّي
إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ»،
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا
الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا»، فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ:
«وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ، كُلِّ
شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ»، وفي لفظٍ لمسلمٍ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ،
فَأَفْتِنِي فِيهَا»، فَقَالَ لَهُ: «ادْنُ مِنِّي»، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:
«ادْنُ مِنِّي»، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: «أُنَبِّئُكَ
بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا
نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ»، وقَالَ:
«إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ» ، وغيرُها
مِنَ الأحاديث. فهذه الأحاديثُ تدلُّ بعمومها أنَّ التصوير لذواتِ الأرواح محرَّمٌ
، وهو مِنَ الكبائر للوعيد الوارد، ولا يُباحُ إلَّا للضرورة أو لحاجةٍ آكدةٍ.
ولا يخفى أنه لا ضرورةَ في هذه
المسألةِ ولا حاجةَ؛ إذ لا يُشْتَرَطُ للمأموم رؤيةُ الإمامِ في صلاته ولا مُشاهَدتُه
في خُطَبِه ودروسه، ولا يُعْلَمُ في ذلك خلافٌ.
لذلك كان حَرِيًّا ببيوت الله أَنْ
تُطهَّرَ مِنْ كُلِّ ما نهى الشرعُ عنه، ويدخل في ذلك عمومُ التصوير، وضِمْنَ هذا المعنى
قال الشنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ في مَعْرِض تفسير قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
﴾ [الحج: ٢٦] ما نصُّه: «يُؤْخَذُ مِنْ هذه الآيةِ
الكريمة: أنه لا يجوز أَنْ يُتْرَك عند بيت الله الحرامِ قَذَرٌ مِنَ الأقذار، ولا
نَجَسٌ مِنَ الأنجاس المعنوية ولا الحسِّيَّة؛ فلا يُتْرَكُ فيه أحَدٌ يرتكب ما لا
يُرْضِي اللهَ، ولا أحَدٌ يلوِّثُه بقَذَرٍ مِنَ النجاسات. ولا شكَّ أنَّ دخول المصوِّرين
في المسجد الحرامِ حول بيت الله الحرام بآلات التصوير ـ يصوِّرون بها الطائفين والقائمين
والرُّكَّعَ السجود ـ أنَّ ذلك مُنافٍ لِمَا أَمَرَ اللهُ به مِنْ تطهير بيتِه الحرام
للطائفين والقائمين والرُّكَّعِ السجود؛ فانتهاكُ حُرْمةِ بيت الله بارتكاب حُرْمة
التصوير عنده لا يجوز؛ لأنَّ تصوير الإنسان دلَّتِ الأحاديثُ الصحيحة على أنه حرامٌ،
وظاهِرُها العمومُ في كُلِّ أنواع التصوير، ولا شكَّ أنَّ ارتكاب أيِّ شيءٍ حرَّمه
رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه مِنَ الأقذار والأنجاس المعنويةِ التي يَلْزَمُ
تطهيرُ بيت الله منها. وكذلك ما يقع في المسجد مِنَ الكلام المُخِلِّ بالدين والتوحيد
لا يجوز إقرارُ شيءٍ منه ولا تركُه» .
هذا، وإِنْ كان حكمُ التصوير بالكاميرا
مَحَلَّ خلافٍ بين أهل العلم ـ وبغَضِّ النظر عن الراجح في المسألة ـ إلَّا أنه ـ جريًا
على القواعد العامَّة ـ جديرٌ بالمسلم الخروجُ مِنَ الخلاف بالأخذ بالأَثْقَلِ حكمًا؛
وذلك صيانةً لبيوت الله تعالى عن أيِّ فعلٍ مُشْتَبَهٍ فيه لم تَثْبُتْ مشروعيتُه ولم
تَتقرَّرْ حِلِّيَّتُه؛ عملًا بالحيطةِ المؤكَّدةِ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:
«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ
وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» . فضلًا عن أنَّ مِنْ آفات أجهزة التصوير أنها تُلْهي المُصَلِّين عن
صلاتهم بالنظر والحركة، كما تُدْخِلُ في نفوس الأحداث المتصدِّرين للخطابة والدروسِ
العُجبَ والرياءَ والتسميع وحُبَّ الظهور، وتعميمَ التنافسِ بينهم فيها، وغيرَ ذلك
مِنَ المَثالِبِ التي يجب تنزيهُ المساجد منها.
وأخيرًا، فبالرغم مِنْ أنَّ أجهزة
التصويرِ ليسَتْ مشروطةً ولا واجبةً في المسجد، إلَّا أنَّ المصلحة المَرْجُوَّةَ منها
مُعارَضةٌ بجملةٍ مِنَ المَفاسِدِ سَبَقَ ذِكْرُ بعضِها؛ فكان الواجبُ صيانةَ المساجد
منها والعملَ بما تَقرَّرَ أصوليًّا مِنْ أنَّ «دَرْءَ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ المَصَالِحِ».
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا
أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه
إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: أوَّل جمادى الأولى ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ فبراير ٢٠١٥م
للمزيد زورو موقع الشيخ حفظه الله
0 التعليقات:
إرسال تعليق